أعلن وزير الدفاع الأميركي روبرت جيتس مؤخراً أن وزارته قد وجدت "100 مليار دولار على الأقل مما يمكن توفيره" وأنه يقوم بـ"تقليص أو إلغاء برامج مثيرة للجدل أو مبالغ فيها كانت ستكلف أكثر من 300 مليار دولار إذا ما تم إكمالها". ومن جانبه، كرر أوباما خلال خطابه الأخير حول "حالة الاتحاد" مقترحَ جيتس لخفض الإنفاق العسكري. والحال أن هذا "الخفض" ينبغي ألا يُفهم على أنه خفض فوري وفعلي في إنفاق الدفاع الحالي. فما تمثله هذه التخفيضات في الحقيقة هو الأموال المتوقع توفيرها خلال السنوات الخمس المقبلة عبر عدم الزيادة في الميزانية الحالية؛ ذلك أن هذا المخطط ليس سوى التزام بعدم إنفاق مزيد من المال في المستقبل؛ وليس مخططاً لإنفاق قدر أقل من المال هذا العام مقارنة مع العام الماضي، أو حتى الحفاظ على الإنفاق عند المستوى نفسه. والحقيقة أن جيتس كان واضحاً بخصوص هذه النقطة. والأكيد أنه يستحق الإشادة لممارسته نوعاً من الترشيد والكبح المالي -ولاسيما في ظل استمرار حالة عدم اليقين حول الانتعاش الاقتصادي- ولكن، في وقت ما زال يمثل فيه الإنفاق العسكري قرابة نصف الإنفاق الفيدرالي، فإنه يمكن القول إن مقترحه ليس مدعاة للاحتفال، على كل حال. إن الـ600 مليار دولار أو يزيد التي تنفقها الولايات المتحدة سنويّاً على الدفاع هي تقريباً ما تنفقه بقية العالم مجتمعة في هذا المجال -والحال أن بقية العالم ليست عدونا ولا تشكل تهديداً عسكريّاً بالنسبة لنا. وكثيراً ما يشار إلى الصين باعتبارها التهديد الكبير التالي الذي قد يظهر قريباً، إلا أن الولايات المتحدة ما زالت تتفوق على الصينيين كثيراً من حيث حجم الإنفاق على الدفاع. ثم لماذا يتعين على الولايات المتحدة، في ظل وجود حلفاء أغنياء مثل اليابان وكوريا الجنوبية، أن تتحمل لوحدها عبء التحدي الصيني (هذا إذا ما افترضنا أن الصين تمثل بالفعل تهديداً مستقبليّاً)؟ ولماذا نشعر بالتوتر والقلق تجاه كوريا الشمالية وبلدان أخرى في وقت يفوق فيه الإنفاق العسكري الأميركي الناتج الداخلي الخام لكل تلك البلدان؟ إن القصة الحقيقية وراء مخطط جيتس تكمن في حقيقة أنه طالما ظلت السياسة الخارجية لزمن الحرب الباردة هي المتبعة، فإننا سنستمر في وضع ميزانيات دفاع كبيرة على نحو غير ضروري. والحال أن أميركا تستطيع أن تنفق أقل بكثير، وأن تظل مع ذلك آمنة في الوقت نفسه. ثم إن أميركا تقع في موقع جيواستراتيجي مفيد يوفر لها الحماية، إذ يحدها من الشمال والجنوب بلدان صديقان، ومن الشرق والغرب محيطان واسعان. ونحن لسنا بحاجة إلى نشر قوات متقدمة حولنا حتى نكون آمنين -مثلما كنا نفعل إبان الحرب الباردة؛ ولم نعد بحاجة إلى احتواء الاتحاد السوفييتي، ولم تخلفه قوة عظمى منافسة تسعى للهيمنة على العالم. والواقع أن ثمة القليل من التهديدات العسكرية المباشرة لدول لا نستطيع ردعها أو هزيمتها، علماً بأنه ليس لأي منها القدرة على استعراض قوتها لتهديد التراب الأميركي. وعلاوة على ذلك، فإن الترسانة النووية الاستراتيجية الأميركية (على رغم أنها قُلصت نتيجة الخفض الذي تنص عليها اتفاقية ستارت الجديدة التي وقعها أوباما) هي بمثابة وسيلة ردع قوية ضد أي بلد يمتلك الأسلحة النووية (على شاكلة كوريا الشمالية وغيرها). والواقع أن العديد من حلفائنا يستطيعون، وينبغي أن يبدؤوا في تمويل أمنهم الخاص بدلاً من الاحتماء تحت المظلة الأميركية. فاقتصاد الاتحاد الأوروبي يعادل اقتصاد الولايات المتحدة أو يفوقه، ومع ذلك فإن الولايات المتحدة تنفق ضعف ما ينفقه حلفاؤنا الأوروبيون على الدفاع تقريباً. ومن ثم، لماذا يوجد 80 ألف جندي تقريباً منتشرون في أوروبا في وقت يستطيع فيه الأوروبيون تحمل تكاليف احتياجاتهم الأمنية الخاصة؟ والأمر نفسه ينسحب على شرق آسيا حيث تتوفر الولايات المتحدة على قرابة 70 ألف جندي. ومع ذلك، فإن اليابان هي ثالث أكبر اقتصاد في العالم، وكوريا الجنوبية (الاقتصاد الثالث عشر في العالم) تتفوق على كوريا الشمالية بـ30 مقابل 1. وبالتالي، فهما أيضاً تستطيعان تغطية تكاليف احتياجاتهما الأمنية. وعلاوة على ذلك، فإن الجيش ليس هو أفضل طريقة أو وسيلة لردع أو هزيمة التهديد الإرهابي الذي يواجهنا. ومن المهم أن نتذكر هنا أن الجيش الأميركي الكبير، بحضوره العالمي المتقدم، لم يكن وسيلة دفاع فعالة ضد الخاطفين الـ19 في هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001. ثم إن كل مخطط إرهابي تقريباً تم إحباطه منذ الحادي عشر من سبتمبر كان نتيجة لجهود أجهزة الاستخبارات وسلطات فرض القانون، وليس نتيجة عمليات عسكرية أميركية. وأخيراً، نقول إن حضور الجيش الأميركي في البلدان الأجنبية -وبخاصة البلدان الإسلامية- سبب لتغذية المشاعر المعادية للولايات المتحدة، التي تشكل في أحيان كثيرة الخطوة الأولى نحو الإرهاب، ما يجعل من السهل على الإرهابيين تجنيد أشخاص. إن التحدي الحقيقي ليس إيجاد "توفير ذي فعالية" في وزارة الدفاع -تقليص النفقات، مع الاستمرار في الوقت نفسه في الحفاظ على ميزانية كبيرة للحفاظ على "حجم الجيش الأميركي ونطاق تأثيره وقوته الحربية" مثلما يدعو إلى ذلك جيتس. بل إن التحدي الحقيقي هو إعادة رسم استراتيجيتنا، استراتيجية تركز على الدفاع عن أميركا، وليس الدفاع عن العالم أكمل، وذلك عبر تقليص انتشار الجيش الأميركي الواسع عبر العالم (فهناك نحو 195 بلداً في العالم، والولايات المتحدة لديها قوات عسكرية منتشرة في أكثر من 150 منها). فهذه هي الطريقة الوحيدة حقاً لتوفير المال! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"